الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في حوار خاص مع الروائي الهادي التيمومي: سبر لأغوار "قيامة الحشاشين" التي أربكت القارئ وهزّت كيانه، وحديث عن الجديد "قبّعات متكبّرة"

نشر في  20 سبتمبر 2022  (15:13)

عن رواية "قيامة الحشاشين".. رواية النبش في تاريخ فرقة طائفية ارتبط تاريخها بالوحشية والدموية ومحاولة الفتك بكل نفحات الإنسانية، عن زعيمها حسن الصبّاح الرابض والمعتصم بعشّ الموت هذا الذي حيكت ونظمت حوله الحكايات والأساطير عن مزاميره ومخططاته ومكائده التي لم تسلم منها حتّى ابنته مريم المكتومة التي قتلها ببشاعة فاقت كل التصوّرات والخيالات...

عن رواية حصدت الكثير من الجوائز من بينها "جائزة الكومار للرواية العربية لسنة 2021"، وجائزة أفضل كتاب عربي في مجال الرواية لسنة 2021 خلال فعاليات الدورة 40 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب. كما نالت الكثير من الإحتفاء والإعجاب بأسلوب نظمها ولغة خلقها التي جمع فيها صاحبها الروائي الهادي التيمومي بين الفنتازيا والخيال ووصل الماضي بالحاضر، ماض لتاريخ "يمتدّ ألف عام" فيعيدنا لأزمنة الحروب الطائفية والمعارك المذهبية...

عن هذا الكتاب وطريزته السجعية حمّالة الأوجه وما بسطه من معان وأفكار ورسائل، أجرى موقع أخبار الجمهورية هذا الحوار مع الروائي الهادي التميمومي صاحب "قيامة الحشاشين"، الذي تحدّث فيه عن العديد من التفاصيل المتعلّقة بهذا المنتوج  الأدبي والفكري وما اعتمده من صور هزّت كيان القارئ وغرائبية صدمت فكره...

كما قدّم الروائي في حواره نبذة عن إصداره الجديد بعنوان "قبّعات متكبرة" موجّها في هذا الإطار رسالة إلى "الذين ارتعبوا وهم يقرأون "قيامة الحشاشين"، قائلا "آن لهم أن يتنفّسوا الصّعداء حين قراءتهم "قبّعات متكبّرة"!

التفاصيل تتابعونها في الحوار التالي:

- في البداية، نالت رواية "قيامة الحشاشين" كثيرا من الاحتفاء سواء في تونس بحصولها على جائزة الكومار الذهبي لسنة 2021 أو في العالم العربي لتتويجها بجائزة أفضل كتاب عربي في مجال الرواية بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، فضلا عن "مباركتها" من قبل النقاد ومن قبل من أبحر في عالم صفحاتها ... فحسب رأيك هل تعتبر أنّ الجوائز أو التتويجات طالما أنصفت أو عكست حقيقة القيمة الإبداعية للأعمال الأدبية والثقافية بصفة عامة؟

حين نبدأ هذا الحوار بالحديث عن الجوائز فإنّنا قد بدأنا من حيث كان علينا أن نُنهي، لأنّ الجائزة نتيجةٌ لاحقة، لكن لا بأس، فهذا دليل أنّ حوارَنا سيكون استثنائيّا!

بالنّسبة إليّ فإنّ الجوائز تعكس قيمةَ العمل الأدبيّ ولكن بصفة نسبيّة، وسأفسّر هذا التّضارب الذي تَطلّب منّي الاستدراكَ بـ"لكن": فعادةً ما تتألّف لِجان تقييم الأعمال الأدبيّة مِن نُقّاد وأكاديميّين وأدباء قادرين على تمييز الأعمال الجيّدة ورَفْعها بكلّ تجرُّد إلى منصّة التّتويج. هذا على المستوى النّظري، لكنّ بعض أعضاء تلك اللّجان لا يستطيعون التجرُّد من الخلفيّات الايديولوجيّة والسّياسيّة والمذهبيّة وحتّى من الانحياز القُطريّ... وغير ذلك من الحسابات الخارجة عن الاعتبار الأدبيّ. أضِف إلى ذلك الضّغوط التي تتعرّض لها لِجان فرز الأعمال الأدبيّة مِن جهات أخرى سياسيّة وحزبيّة، ولوبيّات المصالح والأعمال وغيرها...

مثلُ هذه الظّواهر المشوّهة وغير الصحيّة تضرب في بعض الأحيان مصداقيّة الجوائز، لكنّ الاستثناء لا يُفسد القاعدة لأنّ النّزاهة هي الأصل وهي السّلوك الغالب في البيئة الأدبيّة.

- استحضرت في "قيامة الحشاشين"، شخصية شيخ الجبل حسن الصُباح، زعيم طائفة الحشاشين، والتي أثارت الجدل في التاريخ الإسلامي وارتبط ذكرها بهالة من القداسة المزعومة المشحونة بالفكر المتطرّف وعبادة الموت وسفك الدماء... فإلى أيّ مدى يمكن من خلال بعث هذه الشخصية واستنطاق تاريخها، قراءة الحاضر واستشراف المستقبل؟

حسن الصباح زعيم فرقة الحشاشين المنحدرة من الإسماعيلية هو نموذج للفكر المنغلِق الذي يَعتبر أنّه قد حاز الحقيقة كلّها وأنّ كلّ مختلِف عنه هو بالضّرورة على ضلال ويجب سحقُه وإفناؤُه. وحسن الصبّاح هو الذي ابتدع الاغتيال السّياسيّ المنظّم، واعتمد حرب العصابات، وخاض الحروب اللّامتكافئة وحقّق فيها انتصارات غير منتظَرة.

لم يكن الصبّاح يملك جيشا ولكن قِلّةً من الفدائيّين المدرَّبين على التسلّل بين الأعداء فرادى أو في مجموعات صغيرة، وتنفيذ اغتيالات مُفاجِئة وصادِمة، مثل اغتيال الوزير نظام الملك أو الدّخول إلى حجرة نوم صلاح الدّين الأيّوبي وغًرس خنجر بجانب سريره وهو نائم... وذلك ما جعل الملوكَ والسّلاطين يَهابون الصبّاح ويَجنحون إلى مصالحته... وهكذا مِن قلعة معزولة فوق قمم جبال قزوين حكَم مُدنا وقُرى وقِلاعًا وحصونا، خضعت له تحت طائلة التّرهيب أو العنف الأقصى.

اليوم نرى أثَر الصبّاح في أسلوب الحرب اللّامتكافئة التي تخوضها مجموعات صغيرة راديكاليّة وشديدة التّأدلُج، تعتمد عددا محدودا من الأفراد النّوعيّين ذوي التّدريب العالي...،

مجموعات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تحاول فرضَ آرائها بالتّخويف الشّامل، وضرب العامّة، ونَسف الأنظمة والمؤسّسات لإحداث الفراغ والحلول محلّ السّلطات القائمة، وهو الأسلوب الذي قاتل به الصبّاح في حربه الشّاملة على كلّ الجبهات: ضدّ السّلاجقة والعبّاسيّين والفاطميّين والفرنجة والأيّوبيّين... ، الرّواية تحذّرنا من رأس الشرّ الذي هو زَعْمُ امتلاك الحقيقة الكاملة، واعتبار الآخر ضالّا والسّعي إلى نفْيه، لأنّ ذلك سيقودنا إلى استنساخ الماضي ذي الوجه القبيح.

- هل تعتبر أنّ الكتابة قادرة على خلع أقفال التاريخ وامتلاك مفاتيح الماضي ورموزه لبسط ومعالجة ندوب الراهن؟

"التاريخ في ظاهره لا يَزيد عن الإخبار" كما قال العلّامة ابن خلدون، لكنّ في باطنه عِبَرا كثيرة ودروسا ورسائل لكلّ ذي فكر ونظر. كاتب الرّواية التّاريخيّة لا يهتمّ بالوقائع من زاوية تأريخيّة وتوثيقيّة، ولكنّه يجعل من وقائع التّاريخ وسيلة لإبلاغ معنى، فيُضيف إليها عناصر تخييليّة وشخصيّات وكثيرا مِن بنات أفكاره، وأحداث التاريخ غنيّة بقصص الحبّ والوفاء، والخيانة والغدر، والبطولة والجبن، والخير والشرّ وسائر المعاني والقِيَم... ما يجعلها تربة خصبة لإنتاج الأعمال الرّوائيّة.

كاتب الرّواية يُعيد صياغة التّاريخ ونَسج وقائعه بأسلوب يجمع بين الحاصِل والمتخيَّل، ويَحيكه كَما حصل أحيانا وكما لم يحصل أحيانا أخرى، مِن أجل دَفْع الأحداث وِفْق منهجيّة لها غاية، وغايتها إنتاج الرّسالة التي يقصدها الكاتب.

الرّسالة المقصودة تتضمّن بالضّرورة إسقاطا: إسقاط الماضي على الحاضر بِزَعم وجود تشابه يَفهمه القارئُ بالتّلميح، وبِزعْم أنّ "التّاريخ يُعيد نفسَه" وأنّ "ما حصل بالأمس يتكرّر اليوم" لاستخلاص الدّروس واستبصار الحلول. ولكنّ هدفَ الرّواية التّاريخيّة ليس العبرةَ وحدَها ولكن أيضا تحصيل متعة وإشباع رغبة.

- لا يمكن لقارئ الرواية أن يمحو من مخيّلته تفاصيل تعلّقت بالمصير المأساوي لمريم المكتومة وعاشقها حبيب على يد والدها ساكن عشّ النسر... وكيف انتهيا بطريقة درامية أطفأت فوانيس كادت تضاء... فهل تعتبر أنّ الرواية نجحت من خلال هذه القصة الدرامية وما رافقها من ثنائيات متناقضة كالتوق والطوق والأمل والألم في أن تبسط الرمزية المنشودة المبتغاة؟

سؤالك نفذ إلى لبّ الرّواية، فقصّة حبيب بن أوس ومريم المكتومة تكشف ما اعتمده الكاتب من صُوَر الشّناعة التي تهزّ كيان القارئ والغرائبيّة التي تَصدم فكرَه. مارسَ الصبّاحُ السّحرَ الأسود ولجأ إلى طقوس شيطانيّة لاستحضار هاروت وماروت في هيئة عفريتيْن مُرعِبيْن، وجعل من أعضاده السّاحر اليهوديّ شالوم، الذي علّمه فظاعات أبعد من الخيال، تكشف لنا الرواية فظاعةَ قتْل الصبّاح ابنَيْه، ثمّ قتل ابنته مع زوجها تحت طقوس السّحر المُخيفة، وتَبعث إلينا قصّةُ حبيب وفاطمة المكتومة بِرسائل رمزيّة منها: أنّ الحبّ يغلب الحقد والكراهية، وروح التّسامُح تغلب التحجُّر والانغلاق.

إذ قُدِّر لِفاطمة بنت الرّجل الدّمويّ أن تعشق شابّا قيروانيّا مالِكيّا يؤمن بِقيم التّسامح الدّيني والحوار، والقيروان هنا ذات رمزيّة قويّة، ويُصرّ حبيب على ملاقاة الصبّاح لٍمُحاججته وبيان زيف أفكاره وتهافتها، من دون لجوء إلى الغدر والغيْلة اللّذين يعتمدهما الحشّاشون حتّى كانوا يُعرفون باسم "المخنجِرة".

- تستعدّ هذه الأيّام لإصدار مولود أدبيّ جديد تحت عنوان "قبّعات متكبّرة"، فهل من نُبذة عنه؟ وهل من وجوه تشابه بينه وبين "قيامة الحشّاشين"؟

روايتي قبّعات متكبّرة هي لبِنة أخرى ضمن مشروعي الرّوائيّ، تجري أحداثُها في فترة ما بعد الاستقلال، فترة بناء الدّولة الوطنيّة في تونس، التي جاءت بِقيم الحداثة لِتُواجه بها مجتمعا بدويّا تقليديّا. كان المجتمع التّونسي آنذاك ذا مرجعيّة فكريّة تراثيّة تستند إلى النّقل وتتوجّس من الاجتهاد، وكان مجتمعًا رعويّا مُترحِّلا [عدا بعض الحواضر التي يغلب عليها الاستقرار]، مجتمع يتكوّن من تشكيلات قبَليّة أكثر تجذّرا من النّزعة الوطنيّة، ويُقدّس السّلفَ والأولياء والقبيلة.

وضعت الدولة الوطنيّة الجديدة على عاتقها مهمّة التّحديث الفكريّ والاجتماعيّ، وإن اقتضى ذلك استعمال أدوات قمعيّة، أمّا المجتمع التّقليديّ فقد دافع بشدّة عن قيمه وموروثاته وعقائده ضدّ جهازَ الهيمنة الذي أراد تغيير نمط عيشه وتفكيره، وسعى إلى تفكيك الجهويّة والقبليّة لإرساء هويّة وطنيّة أوسع...، تتأطّر أحداث الرّواية ضمن ذلك الصّراع الذي اتّخذ أوجُهًا عديدة بين الحداثة الوافدة والمجتمع المُحافظ.

هناك أوجُه تشابه وأوجه اختلاف بين "قبّعات متكبّرة" وروايتي السّابقة "قيامة الحشّاشين"، فكلاهما تُوظّفان أحداثا وشخصيّات ضمن سياق تاريخيّ مقصود من أجل تفكيكه وإعادة قراءته، مع خلق المتعة لدى القارئ بالطّريقة المُتوخّاة في بِناء اللّغة وتدفُّق السّرد وتشابك الأحداث. لكنّ بين الرّوايتين فرقًا مثلما يكون بين الوجه الجدّيّ العابس والوجه السّاحر الضّحوك.

"قبّعات متكبّرة" تعتمد أسلوب الدّعابة والسّخرية، وتَشيع على امتداد صفحات طويلة منها أجواءُ المرح الهازِئ، وبذلك تختلف كثيرا عن الطّابع الرّصين وأجواء الخوف التي تطغى على "قيامة الحشّاشين". الذين ارتعبوا وهم يقرأون "قيامة الحشاشين" آن لهم أن يتنفّسوا الصّعداء حين قراءتهم "قبّعات متكبّرة"!



الاختلاف بين الرّوايتين هامّ في نظري لأنّه يَمنع مِن سَجني في قالب صنعه نجاحُ إحداهما. نجاحُ عمل روائيّ قد يُغري الكاتب بعد ذلك بِتكرار نفسه، ويصبح قيدا لا يمكن الخلاص منه، فضلا عن أنّ القرّاء يضعون الكاتب في ذلك القالب ويرفضون صورتَه الجديدة مِن خلال عمله الجديد. نذكر مثلا كيف صار الرّوائي محمد شكري مرهَقا كلّ الإرهاق بِنجاح "الخبز الحافي"، إذ تحنّطت هناك نظرةُ القرّاء إليه...، لذلك جعلتُ روايتي الجديدة سَردًا مُختلِفًا يَكسر الطّوق الذي قد يَفرضه عليّ نجاح "قيامة الحشّاشين". 

حاورته: منارة تليجاني